رمضان شفّاف!
عندما سَألَ النبي يحيى _عليه السلام_ الشيطان: متى تكون سلطته على الإنسان أكبر؟ أجاب: عندما يفرط في الطعام والشراب.
كان الواحد يتعذر (بالشيطان) و(الرفقة) و(المجتمع كله هكذا)
لكن رمضان هذا العام، يزيح كل هذه المعاذير..ويجعلنا في مكاشفة محرجة مع ذواتنا.
الخُلطة بالناس بتعبير الإمام أبي حامد الغزالي _في إحياء علوم الدين_
(مرشِّحة للخبَث) أي: تخرج فيك الآفات الدفينة كالحسد والغضب والعجلة والقلق وغيرها.
بيدَ أن العزلة صحيّة في رصد ردود الفعل وتكوين صورة واضحة عن نفسك؛
إذ أن الإنفصال المؤقت عن المشهد والحياة؛ والنظر بعدسة كاملة من بُعد؛ يكشف لك كامل النتوءات والتضاريس.
الخروج من طاحونة الحياة السريعة والروتينية يجعلك تلْتفت لنفسك القاحلة ولأولويات كنت تدير لها ظهرك!
أُثر عن الفضيل بن عياض أنه قال في قول الله تعالى: {ولاتقتلوا أنفسكم}؛ أي: لاتغفلوا عن أنفسكم.
هذه الأيام كل شيء أخذ حجمه الطبيعي بعيداً عن الأبّهة والبهرجة التي أسعرتها الخلطة، ودعوة القرآن للتفكير المفرد:
(قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ ۖ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) حتى يبعد الفرد عن الأصباغ المزيفة وتأثير المجموعات وضوضائها.
أليس من متع الدنيا أن تعثر على طرفِ خيطٍ دقيقٍ كان سبباً في ظلام نفسك الدامس؟!
لربما أرهقتك المقارنات في مضمار التواصل الاجتماعي ..
لربما كنت المهرّج المكتئب..
أو مفكر ضائع.. أو خبير جاهل..
أو رائد أعمال متباهي بما ليس عنده..
أو غني بالمال فقير في الإنسانية..
أو مسرف في التطلع للمستقبل متناسيا لذة الآن واليوم..
ولربما كنت فقيرا متمظهِر..
أومصابا؛ ينهشك القلق في كل صغيرة..
لربما اكتشفت أنك مطرق رأسك في السماد؛ حجَبك الروتين عن إبصار عناقيد الفرص التي تمنحها بساتين الحياة..
تقول الحكاية: كان هناك ضفدع ينظر إلى السماء على أنها بحجم فوهة البئر.
ولما صعد من البئر عرف أن ما كان يراه ليس إلا جزءاً صغيراً من سعة السماء!
وقعت على سؤال: ماذا استفدت من العزلة هذه الأيام؟
كانت الإجابات توحي بأن الإيلاف والتعوّد الذي نعيشه؛ جمّد شبكيّة العين من أن ترى الجمال الكامن حولنا:
[اكتشفت أن اليوم فيه فرصة 24 ساعة]
[كنت موغلة في مارثون الحياة وطفلتي كبرت عني]
[مافي رأسي من أفكار ليست لي أنا] .
الإلتفات للذات وسبر غورها يشبه الدخول لنظام تحكم شامل؛ تعرف فيه متى تتبختر نفسك؟ وتتمايل؟ أو تنكسر وتعز؟
ومن عرف أكثر؛ طار من ثُقلة الطين إلى خِفّة الروح..
[والسيطرة على الحياة فرعٌ عن السيطرة على النفس] كما يقول أحد أدباء العراق.
أبهى نموذج في مهارة الإلتفات للذات والتحدث إليها ومكاشفتها الإمام ابن الجوزي رحمه الله؛ وكتابُه [صيد الخاطر] يستحق وقتك في هذا الشهر الفضيل.
في مواطن متفرقة تراه يواجه نفسه:
(جلست مع نفسي…) (تدبّرت الأحوال…) (تأملت سرعة ممر العمر…) (تلمّحت تدبير الصانع في سوق رزقي…) (تأملت الذين يختارهم الله لعنايته…) (وليتفكر المعافى…) (أقول لنفسي أيتها النفس…) (رأيت النفس بعد علو السن يقوى أملها…)
(ولقد جلست مرة فرأيت حولي أكثر من عشرة الآف؛ مافيهم إلا من رق قلبه أو دمعت عينه؛ فقلت لنفسي: كيف بكِ إن نجوا وهلكت؟!)
وعَدّد النعم التي عنده فقال لنفسه: (يبهرني حلم هذا الكريم عني؛ كيف سترني وأنا أتهتّك؟! ويجمعني وأنا أتشقق)
وأراد أن يهجر صديق له لأمر ما؛ يقول: (ثم انتبهت لنفسي…).
وقرأت رسالة كتبها أحدهم لنفسه يحادثها ويحفزها وينصحها، وفيها من الرحمة والمكاشفة مايضمن الإرتفاع.
وكل من صابروا هجير صلاح الذات سيشربون من ماء الطمأنينة البارد ماقٌلّبت التقاويم؛ أما الذين يردّدون كثيراً (تصالح مع ذاتك) يتعفنون.
وإنا نقول: (آمين) مع يوسف بن أسباط حين دعا: (اللهم عرّفني نفسي)
رمضان سدّاد الثقوب التي خرّقتها الأيام، وعصى تتكئ عليها الأرواح طوال العام،
وليس ثمرة الشهر الكريم تغيير وقت النوم والأكل والشراب، مع الإبقاء على تليد النفس.
إنّما هي {أياماً معدودات}
تنأى فيها بقلبك عن جفاف الظهيرة..
أن تقيم جدار روحك الذي كاد ينقض..
أن تزيل ماعلق في أتربة منارتك..
أن تسأل نفسك: على ماذا كنت أتكئ؟
أن تواجه ذاتك الشاردة بالتمنّي..
أن تعتني بالندبات المؤجلة..
أن تشد التروس المرتخية..
أن ترتب فوضاك وتخرج من الحيرة..
أن تعود أنقى وأقوى..
رمضان مقياس (شفّاف) يكشف لك مدى براءة الشيطان من كثير ممّا تصنع!
وماهي إلا نفسك.
محمد أحمد بارحمة
8 رمضان 1441هـ