نافذة انتظار
بيت صغير بجانب الطريق، طيني اللون، حاله قديم، يختزل في ملامحه حكايات عفا عنها الزمن، بعضها بمرارة الحنظل نسجت وأخرى بحلاوة العسل مروية..
له باب نُقشت عليه تفاصيل حياته السالفة، فكل انحناء وكل التواء هي ذكرى له، إذ كثيراً ما يمدّ له يده مستغيثاً بها، فتمده ببصيص الأمل الذي ينتشله من غياهب حزنه، ناسجةً أمامه ذكريات أياد صافحت يدي الباب ذات فاقة..
بعد صراعاته الطويلة مع الذاكرة، يروح اتجاه نافذة انتظاره، يقف آملاً متأملاً، علّه يجد ضالته..
وحين بزوغ أقدام من حافة الطريق، تلتفت لهفته نحوها، يفتح النافذة..يُخرج رأسه..يتسع بؤبؤ عينيه العسليتين، يرتفع حاجباه الأبيضان الكثيفان، تتجمّد أطرافه، بعد وهلة تتضح أمامه ملامح قادم..
أبداً لم ترحمه اللحظة، فقد أدرك أن المار ليس ذاك الغائب الحاضر، غائب عن واقعه حاضر في ذاكرته.. فيغض الطرف البائس اليائس، تنحدر على وجنتيه اليابستين عبارات الأمل الواهي، فتنسكب انسكاباً..يرفع يديه المرتجفتين ليغلق النافذة..
يتراجع للخلف دباً دباً، فيصطدم بكرسيه الخشبي يلتفت إليه هازئاً، إذ تذكر للتو اصطداماته المتكررة بواقعه المرير، إذ حاول عبثاً تناسيها..
يمد يده إلى دفتر صور موضوع على طاولة مزخرفة بادياَ عليها التذمر من رتابة حياته،
يجلس على الكرسي، يضع الدفتر المهترئ في حجره؛ يتأمل صور ذكرياته، يُسقط يده عليها ماسحاً مستعراً دفئها لتعينه على صقيع قلبه..
يتقلب مع تقلب الصفحات، يبكي فيضحك ثم يبتسم وأحياناً تتجمد معالم وجهه المنهك من تفاصيل الحياة، تخرج أطياف من الصور تترا، نافضةً غبار الذاكرة التي أبت إلاّ التذكر، وكأن أنين زفراته تعويذة، تحشر قبور آلام قلبه المكلوم..
تطوف حوله محاولة تطبيب جرحه، فترش بدل الدواء ملحا…؟
تمضي عليه الساعات؛ وهو خاشع أمام كتابه..حتى زاغت الشمس مرسلة شعاعها الأخير على وجنتيه، فيتفاداها فكيف يستقبل سراجاً وقلبه لا شعاع يبغيه فيحييه..
يسدل الليل ستاره، على آخر رمق نهار.. فيقوم جارّاً قدميه صوب الدرج، حاملاً على كاهله عتمة قلبهـ وظلمة الليل وظله الأسود.
يستند على الجدار بيد ويُمسك عكّازه بأخرى.. وحيد هو إلا من أطياف ذكرياته التي تلازمه أينما حلّ وارتحل..
نصيرة المساوي
طالبة باحثة بسلك الماجستير
تخصص الفكر الإسلامي والحضارة بالمغرب